ولشاحنات الموت نصيب في انتهاك حقوق النساء والأطفال..
انتشرت صورة 'هويدة' وهي على الأرض بعد سقوطها من إحدى الشاحنات التي كانت تقلها في اتجاه العمل لجني الزيتون انتشار النار في الهشيم عبر الفضاءات الرقمية الحديثة ليعيد إلى الواجهة الحديث عن إشكال متجذّر في التاريخ حول الحقوق الفعلية للمرأة الريفية وحقوق الأطفال في المجتمعات الفلاحية.
هويدة حاجي ،18 سنة ، تلميذة تقطن بمنطقة 'مقسم التراب' من معتمدية "حاسي الفريد" من ولاية القصرين، وهي ككل أترابها في المنطقة تنضج قبل سن نضجها لتقتحم سوق الشغل الهش في الحقول ووسط المزارع منذ نعومة أظافرها لتجني الزيتون في عطلة الشتاء ولتحصد الحبوب عند توقّف الدّراسة في الصيف نظرا للظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة التي فُرضت على معتمدية حاسي الفريد فجعلت منها أفقر معتمديات تونس وفق مؤشرات التنمية الجهوية.
نُقلت 'هويدة' عبر 'شاحنات الموت' إلى منطقة ريفية من ولاية قفصة لتجني الزيتون كعادتها مقابل 11 دينارا ينال منها صاحب الشاحنة 3 دنانير على الرّاكب الواحد ، لتنفق دينارا واحدا على وجبة غذائية ،لا تكاد تسدّ رمقها في يوم شاق ككل أيام عطلتها، ثم تحتفظ ب 7 دنانير تساعدها في مسيرتها الدراسية.
هي كانت تتوقع نجاحها في امتحان البكالوريا لهذه السنة، وكانت تسعى لتوفير مبلغ زهيد في عطلها يساعدها على تحقيق أحلامها في مسيرة دراسية موفقة، أحلام قضت عليها في المهد الشاحنة ذاتها التي كانت تنقلها إلى الحقول يوم الخميس 1 فيفري 2018 بعد سقوطها من خلف الشاحنة لتربض بمستشفيات قفصة ثم صفاقس لساعات قليلة عجز فيها الأطباء عن إنقاذ الضحية الجديدة لشاحنات الموت نظرا لخطورة إصابتها.
في 'مقسم التراب'، مسقط رأس "هويدة"، تستمر الحياة بنسق عادي رتيب في منطقة تفتقر لكل مقومات العيش الكريم ، ومطلب الأهالي الوحيد في هذه المنطقة هو التشغيل و طرقات مهيّأة تستطيع ربطهم بالعالم المحيط بهم.
"زينة" والدة "هويدة" ، تعرّضت هي بدورها في السنة الماضية لحادث مشابه لما تعرضت له ابنتها، وكادت أن تلقى حتفها، وهي اليوم تطلب من السلط المسؤولية التدخل العاجل لفائدة عائلتها التي تظم 11 نفرا ويفتقرون جميعهم إلى مورد رزق قار خصوصا وأن ثلاثة من أبناءها هم من اصحاب الشهادات الجامعية العليا.
شقيق الضحية 'التوهامي' والبالغ من العمر 33 سنة ، ناشد الجميع التدخل العاجل لفائدة عائلته مؤكدا أن الظروف الاجتماعية هي التي دفعتهم جميعا بعد وفاة والدهم إلى العمل في الحقول دون تغطية اجتماعية في ظروف أقلّ ما يقال عنها أنها غير إنسانية وحتى شهاداته الجامعية التي نالها منذ ما يفوق السبعة سنون لم تشفع له في تغيير ظروف عائلته الاجتماعية.
في كل المنطقة من حاسي الفريد مرورا بالكامور وصولا إلى مقسم التراب ،ككل المجتمعات الريفية التي تعتمد أساسا على الفلاحة و تربية الماشية، المرأة هي قوام هذه المجتمعات ليس من المنظور الأسري فحسب بل من المنظور الإقتصادي الصّرف، بالإضافة إلى كونها المربية فهي الراعية وجامعة الإكليل وجانية الزيتون والقمح والشعير والمقابل بضعة الدنانير لا ترتقي إلى معدل الدخل القانوني المسموح به في معظم الأحوال ما يجعلها تركب وسائل نقل بدائية كشاحنات الموت لتوفير دنانير معدودة تعينها على متاعب الحياة في وضع مشابه للنظام الإقطاعي.
'هويدة' لم تكن أوّل ضحايا شاحنات الموت ولن تكون آخر الأطفال أو النساء الذي قضوا بسبب ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية لكن صورتها، التي غزت كل المواقع الإخبارية الرسمية و الافتراضية ، ستظل بمثابة مؤشر يحيلنا للحديث مجدّدا عن حقوق متساكني أحزمة الفقر لكي لا تظل حقوق المرأة ومجلة حماية الطفل مجرّد واجهة جميلة لواقع مرير.
برهان اليحياوي